كتب ــ محمد حسن نوفل
تقاربت المسافات بين الجيران؛ ولكن تباعدت القلوب. الأبواب تفصلها أمتار قليلة .ولكن القلوب تفصلها مسافات شاسعة . في الماضي كان الجيران كلهم كالأهل وكان مبدؤهم في اختيار مساكنهم “الجار قبل الدار” بل ان من حكمهم المأثورة “الجار القريب أحسن من الأخ البعيد” .وكانت العرب تفتخر بحماية الجار وأمنه لهم، قال الشاعر يذكر فخر قومه، ويذكر أمن جارهم فيهم، ويمثل ذلك بحمام مكة في الأمن فقال :
يَرَى الْجَارُ فِيهِمْ أَمْناً مِنْ عَدُوِّهِ
كَمَا أَمِنَتْ عِنْدَ الْحَطِيمِ حَمَامُهَا .
وقال حاتم الطائي :
نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ
وَإِلَيْـهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِدْرُ
مَا ضَرَّ جَـارًا لِي أُجَاوِرُهُ
أَنْ لَا يَكُـونَ لِبَابِهِ سِتْرُ
أَعْمَى إذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ
حَتَّى تُوَارِي جَارَتِي الْخدْرُ
و جاء الإسلام يدعو إلى تعزيز أواصر المحبة وطرق التقارب بين أفراده , ورسم كل علاقات الناس الإيجابية ودعي إليها , ورعى جميع المصالح للبلاد والعباد وحذر من جميع المفاسد التي ما إن تقع إلا ويظهر جورها وعنائها على ما بني بين الناس من علاقات يسودها محبة واحترام , وهذا كله من عظيم إسلامنا وكماله وشموليته.
وجاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بيان ذلك قال تعالى “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ “وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها ” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ” وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو شريح رضي الله عنه قال : ” والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن : قيل : من يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه ” والبوائق جمع بائقة , وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يأتي بغتة. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أذى جاره. فقال: “اطرح متاعك في الطريق”. ففعل؛ وجعل الناس يمرون به ويسألونه. فإذا علموا بأذى جاره له لعنوا ذلك الجار. فجاء هذا الجار السيئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو أن الناس يلعنونه. فقال صلى الله عليه وسلم: “فقد لعنك الله قبل الناس”.
ويقول صلى الله عليه وسلم : “ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”. وإن الصالحين كانوا يتفقدون جيرانهم ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة حتى ترجع إلى الأول.ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي. وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: “إلى أقربهما منكِ بابًا” هذه مقدمة كان لا بد منها.فبعد هذا كله أقف محتارا لما وصلنا إليه في هذه الأيام من غضاضة وعصبية واستعلاء وقبلية وعدم قبول الأخر واسأل نفسي أين نحن من هذا التوجيه الرباني والنبوي هل الأذان أصابها الصمم فلا تسمع ؟ والعيون أصابها الرمد فلا تري؟ أم علي قلوب أقفالها؟ كان الناس في الماضي يتزاورون ويتواصلون باستمرار ويقفون مع بعضهم البعض في السراء والضراء بل إن الترابط الاجتماعي كان قويا جدا بينهم فالكل في البلد متعارفون متحابون يقفون مع بعض كعائلة واحدة ضد أي شيء ولكن للأسف اليوم أصبحت الزيارات تقتصر علي نطاق ضيق جدا في تأدية واجب العزاء فقط. وأتمنى أن تنعكس مقابلة العزاء من ترحيب وود وشكر الي الشارع فتقابل الناس بما كنت تقابلهم به في واجب العزاء كما أنني أؤكد أن سعادة المجتمع وترابطه وشيوع المحبة والألفة بين أبنائه لا تتم إلا بإفشاء السلام ونبذ العنف والبعد عن العصبية والقبلية البغيضة التي قال عنها رسولنا الكريم “دعوها فإنها منتنة”وإعانة الجار والوقوف معه في حل مشاكله وتقديم يد العون والمساعدة وإصلاح ذات البين. فالله الله في الصلح بين المتخاصمين من الجيران فربنا جل وعلا يقول “لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً” فهذه دعوة لنبذ العنف والعصبية بيننا ” قل تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد لا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون”
من اليــوم تعارفنا ونطوي ما جرى منا
فلا كـان ولا صار ولا قلتم ولا قلنـا
وإن كــان ولا بد من العتب فبالحسنى
فقد قيـل لنا عنكم كمـا قيل لكم عنـا
كفى ما كان من هجر وقـد ذقتم كما ذقنا
وما أحسن أن نرجع للود كمــا كنا
والآن بقي علينا جميعا أن نراجع حساباتنا مع بعضنا البعض , وان نحاول أن نزيل تلك الرواسب التي تزرع بيننا بين الفينة والأخرى العداوة والشحناء والتباعد والفرقة .ونسأل الله أن يعيننا جميعا على القيام بحقوق الجوار وواجباته